مراجعة فيلم Pulp Fiction.. بعبثيته المنظمة تارانتينو كتب اسمه في عالم السينما بحروف من ذهب!
لا يمكن لأحد أن ينكر المكانة الخاصة والمتميزة التي يحتلها "كونتين تارانتينو" كمخرج وصانع أفلام، فلأفلام "تارانتينو" نكهة مميزة جاءت نتيجة لخلطة فنية خاصة جداً، حفظها الجمهور واعتاد عليها دون أن يمل منها يوماً، وأصبحت بمثابة توقيع للمخرج وكاتب السيناريو "كونتين تارانتينو"، وهو الأمر الذي جعل من أفلامه حدث سينمائي لابد وأن يتوقف عنده الجميع نقاد كانوا أو جماهير، حتى وإن اختلفت حوله الأراء ما بين متقبل ومعارض بعد ذلك.
يمكننا أن نقول هنا أن كل هذا النجاح -الذي لايمكننا بالتأكيد تلخيصه في فقرة صغيرة كتلك- قد يكون راجعاً في الأساس إلى كون "تارانتينو" باع الأفلام قبل أن يصنعها، فعمله في متجر لتأجير الأفلام أعطاه الفرصة الكافية للتعرّف على أذواق المشاهدين المختلفة، واستطاع بعدها بحبه وشغفه بالسينما الذي دفعه لمشاهدة العديد من الأعمال الفنية وبالطبع عبقريته التي لا يمكن لأحد إنكارها أنْ يصنع أفلام مختلفة بعيدة كل البعد عن النمطية والقوالب المحفوظة، أفلام حظت بإعجاب الجماهير وبقيت وستبقى في ذاكرة السينما لفترات طويلة وربما إلى الأبد.
كل ما سبق يدفعنا اليوم للعودة إلى تسعينات القرن الماضي تحديداً سنة 1994 للحديث عن فيلم Pulp Fiction الذي بالرغم من كونه ليس العمل الأول لـ "تارانتينو" إلا أننا يمكننا اعتباره بكل تأكيد نقطة الإنطلاق الأولى التي تحول معها "تارانتينو" من مخرج وكاتب سيناريو جيد إلى صانع أفلام عبقري ينتظر الجميع فيلمه القادم بشغفٍ كبير، ولا يمكننا أن ننسى هنا أيضًا "روجر افاري" الذي شارك "تارانتينو" في كتابة قصة الفيلم، وهو المعروف بكتابته المميزة والمختلفة التي تناسبت تماماً مع رؤية "تارانتينو" السينمائية، ليحصل الفيلم في النهاية على أوسكار أفضل سيناريو أصلي، بالرغم من المنافسة الشرسة في تلك السنة التي تعد واحدة من أكثر السنوات السينمائية ازدهاراً على الإطلاق.
من كل رواية ورقة!
هناك عبارة شهيرة لابد وأنك تعرفها يا عزيزي تقول "من كل بستان زهرة" تستخدم للدلالة على التنوّع والجمال الذي لدينا منهما هنا نصيب وافر، إلا أننا بالطبع أبعد ما نكون عن الزهور والبساتين، لذا نحن سنحوّل الجملة لتناسب محتوى الفيلم ونقول "من كل رواية ورقة" كإشارة واضحة لما تم تقديمه في فيلم Pulp Fiction، حيث تناول الفيلم مجموعة من القصص القصيرة التي تم دمجها في إطار واحد ليخرج الفيلم في النهاية أشبه برواية بوليسية مشوقة متعددة الفصول.
نتعرف في كل فصل من فصول تلك الرواية المرئية -إن جاز لي التعبير- على حكاية كل بطل من أبطال الفيلم، مع ذلك التناول المختلف للفيلم والبوستر الذي تصدرته "أوما ثورمان" تقرأ واحدة من تلك الروايات ذات الطبعة الشعبية الرخيصة. فقد اتُفق على ترجمة عنوان الفيلم بـ "لب الخيال" نسبةً لواحدة من أشهر المجلات الشعبية والأكثر قراءة في ذلك الوقت، هذا بالإضافة أيضاً لما سبق وقاله "تارانتينو" عن كون الفيلم نتاج لب خياله الخاص.
عن أي قصة سنتحدث!
© 1994 Mirimax/Lionsgate |
اعتدنا واعتاد القارىء معنا على أن نقدم في مراجعة كل فيلم نبذة صغيرة عن قصته، إلا أننا اليوم أمام عمل يحمل من الإختلاف ما يجعل الحديث عن القصة أمراً غير هيناً على الإطلاق، فمن خلال أحداث فيلم "Pulp Fiction" المتشابكة وغير المقيدة بمسار زمني واضح سندخل عالم الجريمة وندور مع رواده في دائرة لن تُغلق إلا بالعودة لنقطة بدايتها التي سنقابل فيها "رينغو / بمبكن" و حبيبته "هوني باني" يتناولان الطعام في أحد المطاعم ويخططان في نفس الوقت لسرقة خزينة أمواله وكذلك زبائنه، في عملية سرقة عشوائية تبدو للوهلة الأولى سهلة وسريعة ومضمونة النجاح، ولكن هل كان الأمر حقًا بتلك البساطة؟ هل سينجح الثنائي في سرقة المطعم وزبائنه؟ أسئلة علينا أن ننتظر لمشهد النهاية حيث ستنغلق الدائرة أخيراً معلنة عن الإجابات الصحيحة.
أما الآن فنحن سنترك "بمبكن" و "هوني باني" -غير مدركين أننا لن نراهما مرةً أخرى إلا في مشهد النهاية- ونغوص أكثر في عالم الجريمة لنبدأ مع "كونتين تارانتينو" و "روجر افاري" الحكاية الأكثر تشويقياً وعبثية على الإطلاق التي سنتعرّف من خلال أحداثها المنفصلة المتصلة على مصير كل بطل من أبطالها الأربعة، الذي تألق كل واحد منهم بطريقته الخاصة ليحفر في ذاكرة السينما مشاهد لا تنسى، استطاع بها فيلم "Pulp Fiction" أن يحتل مرتبة متقدمة ضمن مختلف قوائم أفضل الأفلام على الإطلاق.
ليصبح السؤال الآن هو: هل الأداء التمثيلي وحده -الذي سنتطرق له مرةً أخرى فيما بعد- هو ما يدفعنا اليوم للعودة والحديث عن "Pulp Fiction" بعد مرور أكثر من عشرين عام على عرض الفيلم الأول ؟ بالطبع لا، فالأداء التمثيلي هنا هو أحد العناصر التي صنعت للفيلم تميّزه ولكن لازال هناك المزيد، الذي سنعرضه لك يا عزيزي كإجابة واضحة للسؤال التالي:
لماذا أصبح فيلم Pulp Fiction ضمن أفضل الأفلام في التاريخ؟
© 1994 Mirimax/Lionsgate |
حسناً دعنا قبل البدء في عرض نقاط القوة في الفيلم أن نتفق أولاً على أن اختلاف فيلم Pulp Fiction هو سر تميّزه الأكبر، فالفيلم جاء مختلفاً في كل شيء بدايةً من الفكرة مروراً بالتناول والهيكل البنائي الذي نجح تماماً في تحطيم القوالب السردية المعروفة والمحفوظة سلفاً، وصولاً لمشهد النهاية الذي يمكننا اعتباره خير تتمة ممكنة لكل ما سبق، ليصبح المُشاهد في النهاية أمام عمل فني جديد ومختلف كل الإختلاف عن كل ما سبق وتم تقديمه من قبل بتركيبته الفريدة التي جمعت الشخصيات الغريبة بالأحداث المشوقة.
إلا أننا بالرغم من روعة الإختلاف لا نستطيع تجاهل باقي العناصر الأخرى التي دعمت الفيلم وساهمت في صنع مجده ليحتل الفيلم وفقاً لذلك مرتبة متقدمة في جميع قوائم أفضل الأفلام بغض النظر عن هوية القائم بإعداد تلك القائمة، لذا نحن هنا لنعد قائمتنا القصيرة -والمختارة بعناية- التي سنتعرف من خلالها على عناصر نجاح الفيلم التي لولاها ما كنّا هنا اليوم وما كان Pulp Fiction في تلك المرتبة المميزة.
الإخراج
© 1994 Mirimax/Lionsgate |
بالطبع لابد وأن يأتي الإخراج أولاً وقبل أي شيء آخر، حيث تجلت هنا عبقرية "تارانتينو" التي يمكن اعتبارها في وقت عرض الفيلم الأول -قبل أن يصبح تارانتينو عَلَماً من أعلام السينما- مغامرة غير مأمونة العواقب على الإطلاق، فما قدمه "كونتين تارانتينو" أشبه بلعبة لعبها المخرج مع المُشاهد، حيث أصبح للمُشاهد هنا دوراً شئنا ذلك أم أبينا، فـ "كونتين تارانتينو" لم يقدم لنا فيلماً سهلاً مكللاً في نهايته بإجابات الأسئلة المتزايد عددها مع الوقت، بل ترك لمخيلة المشاهد حرية الاختيار والمشاركة.
دعنا نبدأ بأكثر الأسئلة إلحاحاً هنا التي ظلت للنهاية لغزاً بلا حل، وهو محتوى الحقيبة الجلدية التي قام بفتحها جميع أبطال الفيلم تقريباً. هنا أصبح على المُشاهد أن يختار ما يراه مناسباً وفقاً لرؤيته ومعتقداته، وهو الأمر الذي بالرغم من عبثيته إلا أنه نجح تماماً في وضع الكرة في ملعبك لتقرر أنت وحدك إلى أين تريد الذهاب بالفيلم وأبطاله.
لم تكن الحقيبة ومحتواها التحدي الوحيد الذي قابله المُشاهد هنا، فمع الافتقار التام للتنسيق الذي نتوقع أن يسقط معه أي فيلم للهاوية، نجح "تارانتينو" في تحفيز عقل المُشاهد وجذب انتباهه تماماً من البداية للنهاية، ليستطيع ملاحقة احداث الفيلم والربط بين حكاياته المنفصلة المتصلة التي تم إخراجها بطريقة سلسة للغاية استطاع "تارانتينو" من خلالها صناعة تحفة سينمائية مبهرة ببساطتها.
الحوار
يمكننا أن نقول أن حوار فيلم Pulp Fiction هو أحد أبطاله، فالحوار هنا هو ما أعطى للعمل واقعيته حيث كان بين الأبطال مجرد كلام عادي مثل ما يثرثر به العامة طوال الوقت، ولكن مع القليل من التدقيق ستجد أن الحوار لم يكن عبثياً بلا هدف كما يبدو الأمر، بل على العكس تماماً فالحوار هنا بالرغم من بساطته إلا أنه كان خير تمهيد لما سوف يحدث بعد ذلك.
نذكر على سبيل التوضيح، الحديث عن زعيم العصابة "مارسيلوس" الذي سنعرف أنه قد سبق وقتل رجلاً بسبب زوجته، بعدها سنشاهد "فينسينت/ جون ترافولتا" يصحب تلك الزوجة في سهرة صاخبة تنفيذاً لأمر زوجها، مما يُبقي المُشاهد متحفزاً لما هو قادم متوقعاً الأسوء، يقلل من حدة التوتر المتصاعدة هنا الحس الساخر المُفعم به العمل الذي يجعل الكوميديا السوداء هي السمة الرئيسية للفيلم بالرغم من دموية أحداثه وعبثيتها المطلقة.
الأداء التمثيلي
© 1994 Mirimax/Lionsgate |
لا يمكننا هنا إلا أن نُشيد بالأداء التمثيلي لكل أبطال الفيلم الذي أضاف للفيلم الكثير وأضاف الفيلم لمسيرتهم الفنية كذلك كما سبق وأشرنا من قبل، فنحن هنا أمام باقة من ألمع النجوم استطاعت أن تقدم لنا أداءً رائعاً تميّز بعفويته وببساطته، ربما كان هناك من تميّز أكثر من غيره ونخص بالذكر هنا "صامويل أل جاكسون" و "جون ترافولتا" اللذان تألقا واستطاعا أن يقدما لنا أداءً رائعاً بقيَ وسيبقى في الأذهان طويلاً، ولكن بشكل عام يمكننا أن نقول أن النتيجة النهائية لما قدمه باقي أبطال العمل كانت جيدة ومُرضية للغاية.
وصلنا الآن للنهاية التي يمكننا أن نقول فيها أن فيلم "Pulp Fiction" بالرغم من عبثيته وسخريته الواضحة إلا أنه استطاع سبر أغوار المجتمع الأمريكي والكشف عن صورةٍ أكثر عمقاً وتعقيداً لأفراده، كل هذا جاء في إطار ساحر تم تنفيذه واختيار كل عنصر من عناصره بدايةً من التصوير وحركة الكاميرا مروراً بالموسيقى وصولاً للإخراج بدقة فائقة خرج معها الفيلم في النهاية بكل تلك العفوية والروعة لينافس ويحصد العديد من الجوائز، ولكن تبقى مكانته لدى مشاهديه هي الجائزة الأكبر والأهم بكل تأكيد.
أنظر أيضاً: أفلام كوينتين تارانتينو مُرتبة من الأسوأ إلى الأفضل