يعود تاريخ السلاسل السينمائية إلى عدة عقود ويتم اللجوء إلى هذا النمط الفني لسببين رئيسيين، أولهما فني وهو أن قصة الفيلم مليئة بالتفاصيل التي يصعب تناولها من خلال فيلم واحد ولذلك يتوجب تقسيمها إلى عدد من الأفلام، أما السبب الثاني -الأكثر شيوعاً- هو رغبة الشركات المنتجة في استثمار نجاح فيلم ما من خلال تقديم أجزاء أخرى منه.
السلاسل الممتدة ليست أمراً مستحدثاً بعالم السينما لكنه تزايد بشكل ملحوظ ابتداءً من عقد الثمانينات وبلغ ذروة انتشاره خلال السنوات العشر الأخيرة، بعدما ظهرت العديد من السلاسل والعوالم السينمائية التي لاقت نجاحاً كبيراً وصارت أفلامها تتصدر شباك التذاكر العالمي حتى تحولت إلى ظاهرة فنية، ليبقى السؤال هنا: ما الذي يميز هذا النوع من الأفلام وما سر الانجذاب الجماهيري إليها؟
يهدف صُنّاع الأفلام دائماً لخلق حالة من الارتباط -أو التوحد- بين المشاهد والشخصيات الرئيسية للدرجة التي تدفعهم للتفاعل معهم والانفعال مع الأحداث التي يمرون بها، وبطبيعة الحال مُبدعي السلاسل السينمائية لديهم فرصة أكبر لتحقيق ذلك مقارنة بصُناع الأفلام الفردية.
يتيح طول المدة الزمنية للسلاسل السينمائية متعددة الأجزاء فرصة أكبر للتعمق بالشخصيات وبلورتهم من خلال إبراز جوانب مختلفة بهم، مثل التعرف على ماضيهم والتركيز على دوافعهم والعوامل التي ساهمت في تشكيل شخصياتهم، مثال ذلك شخصية "لوك سكاي-ووكر" في سلسلة Star Wars كمثال، كما أننا في أحيان أخرى نتعايش مع البطل ونرافقه في رحلته ونشهد نقاط التحول التي مَرّ بها تدريجياً وهذا يجعلنا أكثر تعاطفاً وتوحداً معه ومثال ذلك شخصية "نيو" في ثلاثة The Matrix.
الأمر ذاته ينطبق على الأفلام التي تميل إلى الطابع التجاري مثل شخصيات سلسلة أفلام The Fast and the Furious، فرغم أن تلك الشخصيات لم يطرأ عليها تغيرات جوهرية إلا أن المُشاهد لا إرادياً يشعر بارتباط قوي بهم لكثرة المغامرات التي خاضها برفقتهم ومعرفته المسبقة بالكثير من تفاصيلهم ومعاناتهم والأحداث التي مروا بها، كما يمكن قول الأمر نفسه عن شخصيات الأبطال الخارقين مثل شخصية "وولفرين" على سبيل المثال في عالم X-Men والتي حظيت بشعبية هائلة.
لا طالما كانت المسلسلات التلفزيونية متفوقة على الفيلم السينمائي في الجانب المتعلق بتطور القصة، ذلك لأن المدة الزمنية المتاحة أمام مُبدعي الدراما التلفزيونية تمنحهم القدرة على تطوير قصتهم وتقديم أحداث متصاعدة بصورة تدريجية دون الإخلال بمنطقية الأحداث أو وجود فجوات غير مبررة بها، هذا ما يجعل مسلسل Breaking Bad متفوقاً على العديد من الأفلام التي استعرضت مراحل صعود وسقوط أباطرة الجريمة كمثال.
تمنح السلاسل السينمائية لصُنّاعها فرصة مماثلة حيث أنهم في تلك الحالة لا يتقيدون بالمدة الزمنية للفيلم الواحد التي تتراوح عادة ما بين ساعتين وحتى ثلاث ساعات على أقصى تقدير، لك أن تتخيل ماذا لو تم دمج ثلاثية The Matrix في فيلم واحد أو تم اختزال ملحمة Lord of the Rings في عمل مُنفرد، هل تتصور كم من الشخصيات التي كان سيتم استبعادها وكم من التفاصيل التي ستيم إغفالها، بالتأكيد كان سيؤثر ذلك سلباً على تماسك حبكة القصة -التي نعتبرها اليوم مُبهرة ومشوقة- لرأيناها آنذاك مفككة ومهترئة!
حتى السلاسل شبه المنفصلة -التي تستعرض صراعاً مختلفاً بكل جزء- تحاول الاستفادة من الأجزاء السابقة في دعم الأجزاء اللاحقة وتحويلها إلى ركائز تقوم عليها الحبكة الجديدة لجعلها أكثر عمقاً وإثارة واختزال المقدمات والتمهيدات بدرجة كبيرة، المثال التوضيحي لذلك فيلم Mission Impossible - Fallout -الجزء السادس من السلسلة الشهيرة- الذي استفاد بدرجة كبيرة من أحداث الجزء الذي سبقه Mission Impossible - Rouge Nation، وقد جرى أمر مُشابه مع فيلم Spectre ضمن سلسلة أفلام جيمس بوند.
لعل العوالم السينمائية -خاصة عالم مارفل السينمائي- هو المثال الأبرز على تلك النقطة، حيث يجمع هذا العالم عدة سلاسل سينمائية فرعية مرتبطة ببعضها البعض بلغ مجموعها -حتى الآن- 23 فيلماً، أيا كانت نظرتك لأفلام الأبطال الخارقين المقتبسة عن الكوميكس، لا يمكن إنكار أننا أمام تجربة سينمائية فريدة وغير مسبوقة.
ما يهمنا هنا هو أن صُنّاع تلك التجربة أحسنوا استغلال الفرصة التي اتيحت لهم ولم تتح لأي صناع أفلام قبلهم، وهي أن بمقدورهم تقديم قصتهم وبناء عالمهم وتطويره بروية وهدوء، كما استطاعوا من خلال طول المدة الزمنية وتعدد الأفلام من تقديم قصة بالغة التعقيد مليئة بالشخصيات والأحداث المتشعبة المليئة بالمفاجآت والانقلابات وأحياناً الصدمات، قبل أن تجتمع تلك الخيوط معاً بعد مُضي 10 أعوام كاملة في فيلمين هم الأضخم إنتاجاً والأكثر نجاحاً بهذا العالم وهما فيلمي Avengers: Infinity War وAvengers: Endgame.
أحدثت أفلام MCU نقلة نوعية في عالم صناعة السينما واتجهت العديد من الشركات الكبرى إلى تقديم عوالمها الخاصة التي تتضمن أفلاماً أكثر وبالتالي قصص أكثر تعقيداً وأحداث أكثر تشعباً، مثال ذلك إطلاق شركة DC -المنافس الأول لمارفل- عالمها السينمائي الخاص، كما تسعى شركة سوني حالياً لبناء عالم خاص بشخصية الرجل العنكبوت، بعيداً عن عالم الكوميكس بدأت بعض امتيازات الأفلام تقدم اشتققات Spin-off بعيداً عن أفلام السلسلة الأصلية مثل فيلم Hobbs & Show المشتق عن سلسلة Fast and the Furious واشتقاقات عالم Star Wars مثل فيلم Rouge One وفيلم Solo.
إبهار السلاسل السينمائية الممتدة لا يقتصر على شخصياتها فحسب، إنما يمتد ليشمل العالم أو المحيط الذي تجري فيه الأحداث، نظراً لأن تعدد الأفلام -سواء كانت في صورة أجزاء متعددة من فيلم واحد أو في صورة عالم سينمائي كامل- تتيح للكتاب فرصة أكبر لاستعراض جوانب أخرى من هذا العالم وإضافة المزيد من التفاصيل إليه، بل أحياناً يتوجب عليهم فعل ذلك لتفادي التكرار والملل.
تصحبنا معظم السلاسل السينمائية إلى عوالم خيالية مُبهرة نزداد إعجاباً وتعلقاً بها كلما تعمقنا بها وشاهدنا المزيد من تفاصيلها فأصبحنا أكثر دراية بها، الأمثلة على ذلك تفوق ما يمكن حصره ومنها المجرة التي تجري بها سلسلة أفلام Star Wars أو الأبعاد الكونية المختلفة لعالم مارفل السينمائي MCU، الأمر نفسه ينطبق على ثلاثية أفلام The Lord of the Rings والثلاثية التابعة لها The Hobbit وعالم هاري بوتر وغير ذلك الكثير.
لعل أحدث الأعمال المُنضمة لتلك الفئة هي سلسلة أفلام الحركة والإثارة John Wick التي صاغ مُبديعها عالماً سرياً للجريمة، حرصوا على توسعته بصورة تدريجية على مدار أحداث الأفلام الثلاثة التي صدرت من السلسلة حتى الآن، هناك شبه إجماع على أن مقومات هذا العالم الغريب والمختلف كانت من أبرز عوامل الجذب للسلسلة التي حققت نجاحاً كبيراً على المستوى التجاري.
يبلغ أي فيلم سينمائي قمة النجاح حين ينجح صناعه في إزالة الحاجز الفاصل بين الواقع والخيال، بمعنى أن يتمتع الفيلم بدرجة من المصداقية تدفعنا للتفاعل مع الشخصيات والأحداث باعتبارهما أمراً واقعياً، حتى أننا -على مقعد المُشاهد- نتحفز باللحظات الحاسمة ويصيبنا التوتر في أوقات الخطر وقد نبكي تأثراً في بعض الأحيان ويمكن اختصار كل ذلك في مصطلح واحد هو "التعايش مع الفيلم".
أحد مميزات السلاسل السينمائية -التي كانت في الأصل من أقوى مزايا المسلسلات الطويلة- أنها تعزز مبدأ التعايش بفعل كافة العوامل السالف ذكرها، فنحن ننخرط بعالم السلاسل السينمائية بصورة أكبر نعلم تفاصيله ومتعلقين بشخصياته الرئيسية، مستعدين على الدوام للتعمق فيه بصورة أكبر ومتلهفين للمزيد منه، هذا بالتأكيد يزيد من متعة التجربة السينمائية وبالتالي يمكن اعتباره من أبرز مسببات الانجذاب لهذا النمط الفني.